• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

محمّد «ص».. بشارة الأنبياء

اسرة

محمّد «ص».. بشارة الأنبياء

◄رسالة الأنبياء الكبرى ودعوتهم الجامعة هي «الدِّين»، فهم جميعاً بعثوا ليبشِّروا به ديناً واحداً هو دين الإسلام.. دين الخضوع والاستسلام لأمر الله.. دين الهداية والإنقاذ للبشرية مع تفاوت في درجات التبليغ، واختلاف في منهج التعبُّد والبناء الاجتماعي. ومع هذا التفاوت في الرسالات، والدعوات الإلهية، فإنّ معالمها الرئيسية جميعاً تتركّز في الرسالة الشاملة لهذا الدِّين، رسالة محمّد «ص».

فهي جميعاً قبس من أنوار هذا الدِّين، وتشكيلة عقائدية، وتشريعية من مادّة هذا المنهاج الكبير.. وهي جميعاً تسلك كخطوات تمهيدية، ومبادئ تحضيرية لإعداد البشرية من أجل حمل رسالة هذا الدِّين، والإيمان بدعوته. لذا كان طبيعياً أن يوجّه الأنبياء ـ أصحاب الرسالات الكبرى ـ كموسى وعيسى «ع» أتباعهم إلى انتظار هذا الدِّين العظيم، لاعتناق دعوته، والتصديق برسالته، والإيمان بنبيّه محمّد «ص»، فقد أشارت الكُتُب الإلهية المقدّسة ـ التوراة والإنجيل ـ إلى مجيء هذا النبيّ العظيم، موجهة أتباعها إلى انتظار الدِّين، والانضواء تحت دعوته، والتصديق برسالته.

ولقد كان اليهود ينتظرون بعثة نبيّ يبعثه الله منقذاً وهادياً للبشرية ويعرّفونه في كُتُبهم وتباشير مستقبلهم، ولقد كانوا يصرِّحون بذلك وينتظرون بعثته لينتصروا به على العرب من الأوس والخزرج.

ولقد سجّل القرآن هذه الحقيقة وذكّر اليهود بها، فخاطبهم بقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقُ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ) (البقرة/ 89).

ولقد حدثت أحداث ووقائع تاريخية مشهورة في التاريخ اليهودي من قبل مجيء محمّد «ص»، دلّت على ذات المعنى الذي أشارت إليه الآية الكريمة من بعد البعثة (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ).

فقد ورد عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قوله: "كان اليهود يستفتحون – أي يستنصرون – على الأوس والخزرج برسول الله «ص» قبل مبعثه، فلمّا بعثه الله من العرب ولم يكن من بني إسرائيل كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد، ونحن أهل الشرك وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث. فقال سلام بن مِشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية".

وروى العياشي بإسناده رفعه إلى أبي بصير عن أبي عبدالله، فقال: "كانت اليهود تجد في كُتُبها أنّ مهاجر محمّد رسول الله «ص» ما بين عيَر وأُحُد، فخرجوا يطلبون الموضع فمرّوا بجبل يقال له حداد، فقالوا حداد وحد سواء فتفرّقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء، وبعضهم بفدك، وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم فمرّ بهم أعرابيّ من قيس فتكاروا منه، وقال لهم أمرُّ بكم ما بين عيَر وأُحُد، فقالوا له إذا مررت بهما فآذِنّا بهما، فلمّا توسّط بهم أرض المدينة، قال ذلك عيَر، وهذا أُحُد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا له قد أصبنا بغيتنا، فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: إنّا قد أصبنا الموضع، فهلمّوا إلينا، فكتبوا إليهم: إنّا قد استقرّت بنا الدار، واتخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالاً، فلمّا كثرت أموالهم بلغ ذلك، تبعاً، فغزاهم، فتحصّنوا منه، فحاصرهم ثمّ أمنهم فنزلوا عليه، فقال لهم إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلّا مقيماً فيكم، فقالوا له: ليس ذلك لك، إنّها مهاجر نبيّ، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك. فقال لهم: فإنّي مخلف فيكم من أُسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج، فلمّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أمّا لو بعث محمّد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا، فلمّا بعث الله محمّداً «ص» آمنت به الأنصار، وكفرت به اليهود".

وهو قوله تعالى: (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحون عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخر الآية.

- بشارة الإنجيل بمجيء رسول الله محمّد «ص»:

على الرغم من التحريف الذي تحمله الأناجيل المتداولة، فإنّ ما وصل منها بأيدينا لازال يحمل البشارة برسول الله محمّد «ص»، ومع ذلك فإنّ المترجمين للأناجيل حاولوا أن يُحرِّفوا ذلك أيضاً، كما سيتّضح فيما يلي:

جاء في إنجيل يوحنّا: (إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم "بار قليط" ـ معزّياً ـ آخر ليمكث معكم إلى الأبد.(

(وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلّمكم كلّ شيء، ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم).

(لا أتكلّم معكم كثيراً أنّ رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء).

(ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي).

(لكنّي أقول لكم الحقّ، إنّه خير لكم أن أنطلق، لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله لكم ومتى جاء ذلك يبكت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة، أمّا على خطية فلانّهم لا يؤمنون بي، وأمّا على برّ فلانّي ذاهب إلى ربّي ولا ترونني أيضاً، وأمّا على دينونة فلانّ رئيس هذا العالم قد دين. إنّ لي أُموراً كثيراً أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأمّا متى جاء ذلك روح الحقّ، فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ، لأنّه لا يتكلّم من نفسه، بل كلّ ما يسمع يتكلّم به ويخبركم بأمور آتية، ذلك يمجدني لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم).

وبالتأمّل في هذه النصوص نجد أنّها تشير إلى:

1 ـ أنّ المسيح «ع» يوصّي ويبشّر بمجيء معزٍّ بعده.

2 ـ وأنّ مجيئه مشروط بذهابه.

3 ـ وأنّه مرسل من قبل الله تعالى.

4 ـ وأنّه يعلّم كلّ شيء.

5 ـ وأنّه يذكّر بما قاله المسيح «ع».

6 ـ وأنّه يشهد للمسيح «ع».

7 ـ وأنّ العالم سيتبع دينه.

8 ـ وأنّه لا يتكلّم من نفسه، بل يتكلّم بما يسمع.

9 ـ وأنّه يخبر بأمور آتية.

10 ـ وأنّه يمجد المسيح «ع».

11 ـ وأنّه يبقى معهم إلى الأبد.

وإذا راجعنا صفات رسول الله محمّد «ص» فنجد أنّ هذه تنطبق عليه تماماً، فإنّه يحمل القرآن الذي هو (تبيان لكلّ شيء)، ويخبّر عن أمور آتية وقعت بعد نزوله، وأنّه يشهد للمسيح «ع» بالنبوّة، والرسالة، ويمجّد المسيح «ع»، وهو لا يتحدّث من نفسه بل بما يوحى إليه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (النجم/ 3-4).

وقد انتشر دينه في العالم، وقرآنه حيّ خالد إلى الأبد، ويزداد يقيننا أكثر إذا علمنا أنّ كلمة المعزى هي ترجمة محرفة لكلمة (بيريكليتوس) اليونانية التي كتب بها إنجيل يوحنّا منذ البداية، وهي تعني في ترجمتها الدقيقة (أحمد)، وقد حرّفت الكلمة في الأناجيل عند ترجمتها إلى (باريكليتوس) والتي تعني المعزي.

وذلك ينطبق حرفياً مع ما أثبته القرآن من كلام المسيح «ع» إلى بني إسرائيل: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصّف/ 6).

مَن يراجع التاريخ يجد أنّ تبشير المسيح «ع» بنبيّ يأتي بعده كان من الأمور المسلّمة لدى النصارى من زمن المسيح «ع»، وقبل ظهور الإسلام، وقد نقل المؤرّخون مثل (وليم مور)، بأنّه وجد من أتقياء المسيحيين بعد المسيح «ع»، مَن ادّعى كونه هو (البارقليط) الموعود، وإنّ ناساً كثيرين قد اتّبعوه مصدّقين.. وذلك يؤكّد بأنّ النصارى ظلّوا قروناً قبل البعثة النبوية ينتظرون هذا المُرسل. وقد دفع هذا الاعتقاد بالبعض إلى استغلاله والادّعاء بأنّه هو النبيّ الموعود منهم (منتسي) الذي كان رجلاً روحانياً وادّعى في عام (187) بأنّه هو الرسول الذي أخبر عنه المسيح وقد تبعه جماعة من الناس. وهذا بدوره يؤكّد أنّ مسيحيي القرون الأُولى كانوا يفهمون البارقليط إنساناً رسولاً سوياً لا ملاكاً ولا روحاً إلهياً، حيث حاول بعض القسسة تفسير البارقليط بأنّه روح القدس، وأنّه حلّ بعد المسيح على تلاميذه فأنطقهم بكلّ اللغات!.. كما أنّنا لم نجد في التاريخ ورود معارضة من قبل نصارى صدر الإسلام عند نزول القرآن وإخباره بأنّ التوراة والإنجيل قد بشّرتا برسول الله محمّد «ص»؛ ولكن نقلت وقائع تاريخية عن نقاش اليهود والنصارى فيما إذا كان الرسول الموعود هو هذا أم غيره، ممّا يؤكّد أنّ البشارة الواردة هي بشارة برسول إنسان يرسل من قبل الله تعالى.. وقد دخل الإسلام كثير من اليهود والنصارى بسبب تلك البشارة المثبتة في كُتُبهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الحقائق مثبّتاً إيّاها، ومحتجّاً بها على اليهود والنصارى بقوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) (الأعراف/ 157).

(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأتِي مِن بَعْدِي اسْمهُ أَحْمَدُ) (الصّف/ 6). ولقد تجلّت هذه الحقائق لدى كلّ منصف وباحث عن الحقّ.. يريد الاستجابة لدعوة الهدى.. كالنجاشي ملك الحبشة المسيحي الذي استجاب لكلمة الحقّ حينما وجّه إليه رسول الله «ص» كتاباً يدعوه فيه للإيمان ويحثّه على الدخول في الإسلام، فأسلم، وسجلت كلمته الخالدة التي احتضنها قلب التاريخ فحفظها شهادة انصاف.. وكلمة منصف لا يتأثّر بموروثات البيئة، ولا يخضع لضغط الكبرياء والعصبية.. قال كلمته الخالدة: «أشهد الله أنّه النبيّ الذي ينتظره أهل الكتاب..». وهكذا يتّضح لكلّ منصف وباحث عن الحقّ أنّ محمّداً «ص» كان بشارة الأنبياء ومنتظر الرُّسُل المرجو لإصلاح البشرية وإنقاذها.. يبشّر به الأنبياء ويدعون الله لبعثته. فهذا أبو الأنبياء إبراهيم «ع» بشّر قبل موسى وعيسى بالبعثة ودعا ربّه أن يبعث في هذه الأُمّة نبيّاً منها، هادياً ومنقذاً فكانت هذه الدعوة إشارة إلى مجيء نبيّنا محمّد «ص»، كان القرآن قد كشف عنها، في آيتين متناسقتين في الصيغة والمعنى، فقال تعالى حاكياً عن لسان إبراهيم دعاءه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِم رَسُولاً مِنْهُم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّك أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 129). فكان هذا الدعاء المستجاب بشارة، وإشارة إلى بعثة نبيّ الرحمة محمّد «ص» هادياً ومرشداً من ذرِّيّة إبراهيم «ع». هذا الدعاء الذي وجد جوابه في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّنَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةِ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَ لٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2).

قال رسول الله «ص»: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى «ع»».►

ارسال التعليق

Top